جبروتُ قدر

عاجزٌ عن مساعدتكَ أو إشفائك

 

 

عندما استيقظتُ وفُتحت عينيّ لأولِ رايات النور عبر الستائر، كنتُ أعلمُ بأن أمراً ما ليس على ما يرام.

كانت هناك عدةُ أصواتٍ بالأسفل تتحدثُ، وكلما استلقيتُ على السرير كلما شعرتُ بها تتعالى أكثر.

حاولتُ وضع الوسادةِ على رأسي وحجز تلك الأصوات المختلفة وقد كانت الوحيدةُ التي استطعت تمييزها هي أصواتُ والديّ.

استلقيت على السريرِ لخمسِ دقائقٍ قبل أن أتنهد واقذف بها للجانب الآخر من السرير واخرج من تحت البطانيات مرتدياً حذائي أسفل السرير و سترتي المعلقة جانباً.

الجو كان أبرد من المعتاد مقشعراً بدني، فأخذت سترةً أخرى ولبستها وقد أغلقتُ حزامها بأكمله.

"هذا أفضل.." تمتمتُ لنفسي.

حدقتُ في انعكاسي على المرآةِ وتنهدتُ عندما رأيتُ الاصفرار على بشرتي وقد ازداد وضوحاً عما كان عليه.

بدا شعري أخفَ أيضاً، ليس لامعاً ومنساباً كما كان قبل بضعةِ أشهرٍ مضت..

أمسكت بهودي سترتي ورفعتها على رأسي داساً بعض الخصلات الطليقة.

عندما فتحتُ بابَ غرفتي،كل الأصوات بدت متمايزة، كلٌ منها ينتمي لشخصٍ مختلف وبشكلٍ ما كلما اقتربت خطواتي من الطابق السفلي كلما أصبحت مخاوفي الكبرى صحيحة.

لم يكن من اللازمِ لأحدٍ أن يقول شيئاً، لم أكن مضطراً للاستماعِ لمحادثتهم حتى أعلمَ عمَّ يتحدثون.

تلك البدلاتُ وربطاتُ العنق، المجوهراتُ الفاخرةُ على صدرِ والداتي وصوتُ أحاديث المرأة الأخرى، كانت تفسرُ كل شيء.

مجموعتانِ من الأشخاص رفيعيّ المستوى في نفس الغرفة كانوا يتحدثون مع بعض الشاي ويتضاحكون.

لم يكن هذا شيئاً جيداً كما يبدو عليه الأمر، خاصةً في هذا المنزل..

لم يلاحظني أحدٌ حتى في بادئ الأمر، كنتُ كإحدى هذه التماثيل الكثيرةِ المرصوصةِ في منزلنا والتي وقد وُضعت جانباً للزينةِ وإظهار ما نملكهُ من مالٍ أمام الضيوف نسبةً لكل تلك التماثيل واللوح الفنية في كل المنزل.

الرجلُ الذي كان جالساً على أحد الكراسيّ الجلدية مقابل والدي كان يملكُ رأساً بشعرٍ أسود قصيرٍ قد بدأت حوافُ خصلاته تبيّض.

بدلتهُ بدت أجمل من بذلة والدي وكان هذا يوضحُ الكثير.. ساعته كانت تعكسُ النور القادم من النافذةِ وأحذيته كانت لامعةً جداً لدرجةِ أنني تخيلتُ شكل الطلاء في الجدارِ معكوساً عليها.

زوجته كانت بنفسِ شاكلته، شعرها ملفوفٌ للخلفِ بذيلِ حصان ولكنها بدت صغيرة - وكأنها فقط أكبر مني بقليل.

شعرتُ بشيءٍ منزعجٍ في أمعائي عندما رأيتها أخيراً أدركت حضوري.

عيناها كانتا رماديتان، وابتسامتها تصرخُ بالحماس، ولكن لغة جسدها كانت مشلولة، تقريباً لكونها كانت مندهشةً كثيراً برؤيتي شخصياً.

شاهدتُ بارتباكٍ المجموعتان حتى ما تنحنحت والدتي وأشارت لي بحركةٍ من إصبعها مع ابتسامةٍ مغصوبة.

" هذا هو ابني، جيمين.. بارك جيمين الذي كنتُ أخبركما عنه."

لم يقل أيٌ منهم شيئاً بينما مشيتُ لوالدتي وجلستُ بجانبها.. وحتى عندما وضعت ذراعاً مرتبكةً على خاصرتي وسحبتني ناحيتها، لم يقل أيهم شيئاً حتى ما تفحصني الرجل الثاني قبل أن يعطيني ابتسامةً صغيرة.

" أنا مسرورٌ برؤيتك، بني."

قرصتني والدتي بقوةٍ في جانبي فأخذتُ نفساً عميقاً كي لا أخرج أي صوت يوضحُ أني أتألم هنا وبدلاً عن ذلك انحنيتُ لهم قبل أن أستقيم مجدداً.

" مرحباً، أنا بارك جيمين. سرني لقاؤك."

" اعذرا مظهره هذا، ولكنه استيقظ للتو بعد ليلةٍ طويلةٍ من الدراسة. كل صفوفهِ تقدمت عليه لذا يجبُ عليه السهرُ هذه الأيام لينهي ما عليه." كذبت والدتي وهي تربتُ على كتفي.

" بالطبع، نتفهمُ هذا عندما يأتي الأمرُ للتعليم" ابتسمت تلك المرأةُ لأمي ولي بدفءٍ.

قاطعت المرأةُ بين ساقيها النحيفتين ومالت بجانبِ زوجها وهمست له شيئاً في أذنيه جاعلةً منه يومئ لها.

" زوجتي قالت فقط للتو أن ابنكما نحيفٌ جداً ووسيم نسبةً لعمرهِ، ولديهِ قامةٌ جيدةٌ أيضا."

" آه، شكراً لك." ابتسمت أمي بتوسعٍ.

" إنه يخضعُ لحميةٍ صارمةٍ الآن حمايةً لمظهره، صحيحٌ عزيزي؟"

التفتُ لوالدتي وهي تعطيني تلك النظرة التي جعلتني للحظةٍ أريد التقيؤ من محاولاتها المكثفة هذه، ولم يكن بيدي سوى أن أومأتُ لها برأسي قبل أن أنظر لهما.

" أجل."

" خذ لك مقعداً." قالت المرأة.

" أرجوك اجلس كي يمكننا التحدث معك بأريحيةٍ أكثر بما أنك هنا."

لم أتحرك حركةً واحدةً ولم أتجه حتى نحو إحدى الكراسي الشاغرة.. لم يكن مسموحاً لي " بتاتاً" بالجلوسِ في هذه الغرفة، لأنها غرفةٌ تقامُ فيها المحادثاتُ واللقاءاتُ المهمة التي لا تناسبُ عمري بعد.

هذا التفكير رصنَ ثقيلاً في رأسي عندما رأيتُ والدتي تشيرُ لي بالجلوسِ بجانبِ والدي الذي كان يبتسمُ لي بتزييفٍ كوالدتي.

" اعذرنا لعدمِ تعريفنا عن أنفسنا لك." قهقهت المرأة.

" أنا لي سويون وهذا زوجي إل كوك."

ابتسم لي وأخرج يده لي لأصافحها فوراً.

" أنا المديرُ التنفيذي للقسمِ التكنولوجي في آليات إم سون وإنتل وزوجتي تديرُ عملاً صغيراً في جانغ نام في تخصصِ مستحضرات التجميل، وهي معروفةٌ عالمياً." قالَ بفخرٍ.

أومأتُ له، بدونِ فهمٍ بعد لسببِ إخباري بكلِ هذا، هل كي يسخط في وجهي، أم لكونهِ فخورٌ كثيراً بما حققته عائلته.

بطريقةٍ ما، ربما التقط تعابيري لأنه ضحكَ بعلوٍ للتجعد أطرافُ عيناه وهو يربطُ يده بيدِ زوجته.

" لا زلتَ تبدو مرتبكاً قليلاً عن بعضِ الأشياء. ألم تخبروه بالأمرِ مسبقاً؟" نظرَ لوالديّ وأنا نظرتُ لهما أيضاً لأنني شعرتُ أن الشعور الذي انتابني سابقاً عندما استيقظت يكبرُ وقد رأيتُ والدي يسعلُ بخفةٍ ويهزُ رأسهُ نافياً.

" أردنا إعلامهُ عندما نكونُ جميعنا معاً، قد تحدثنا أنا و زوجتي عن الأمر عدةَ مراتٍ مسبقاً وقررنا أن نناقش الأمرَ حينما تحضرا."

فتح إل كوك فمه ليقول شيئاً، على الأرجح ليعارض على ما قالهُ والدي ولكن زوجته، سويون، ضغطت على يده بابتسامةٍ.

" على الأقلِ ها نحنُ هنا الآن، من الجيدَ أن يسمعَ بالأمرِ هنا بوجودنا جميعاً."

شددتُ يديّ على بنطالي وأنا أضغط فخذيّ وهم يتحدثون، لأن قلبي كان ينبضُ بشدةٍ وقد تبدد البردُ الذي كان يعتريني وتبدل بحرِ غضبي.

كنتُ مشوشاً وهم يتحدثون هكذا وكأنني غير موجود، كنتُ متوتراً من حقيقةِ أن كل ما يتحدثون عنه - والذي لا أعلمُ ما هو - قد حدث بين والديّ بدون أن أشعر به وأنا أبعد عنهم بضع سنتيمترات.

سمعي بقيّ مشوشاً حتى ما التفت لي إل كوك ورفع حاجباً.

" ماذا تظنُ بني؟"

رفعتُ نظري له خارجاً عن أفكاري، أرمشُ بسرعةٍ وأحدقُ بوالديّ لثواني وهما لا يلتفتان لي هذه المرة ولا يشيران لي بماذا يجبُ أن أقول كالسابق.

" آسف.." أحنيتُ رأسي اعتذارا.

" أيمكنك إعادةُ ما قلتَه؟"

سمعتُ والدي يتنهدُ بجانبي، بينما ضحكَ إل كوك وكذلك زوجته معه قبل أن تحط بنظرها عليّ مطولاً وتقول، " أحببته يا عزيزي، إنه مضحكٌ جداً."

ابتسمت لها بأدبٍ ولكنني لم أفهم بالضبط أين كان الجزء المضحكُ المسبب لهذا الضحك؟

" كنا نتساءلُ عما تظنهُ حيال هذا الزواج.. مع ابنتنا إن سون؟"

ارتددتُ للخلفِ على مقعدي بسرعةٍ جاعلاً الكرسي يصدرُ صوتَ أزيزٍ من صدمتي وقد بَهُتَ لوني كما يبدو لون ذلك الكريم الذي تضعه سويون على وجهها لتبدو أكثر بياضاً.

لمحضِ ثانية، لجزءٍ من الثانية، ظننتُ بأنني أحتضر.. كما لو أن قلبي توقف عن النبض وقد بقيتُ أنظر للا شيء و بدت أصوات عقاربِ الساعة عاليةً كثيراً في رأسي.

" لقد عملتُ مع والدك لوقتٍ طويلٍ وقد تناقشنا كثيراً عن إمكانية تضخيمِ ثرواتنا، وقد تناقشنا بشكلٍ مبهمٍ عن موضوع الزيجة هذه ولكن شيئاً لم يكن مؤكداً حتى الآن. سوف تنتقلُ للجامعةِ قريباً بعد المدرسة وابنتنا إن سون لديها طموحٌ كبيرٌ للمستقبل. نحنُ نشعرُ بأنكما سوف تناسبان بعضكما بمثاليةٍ. يمكنكما الذهاب لنفسِ الجامعة، جامعة ييل أو ألما أو ستانفورد. يمكننا توفيرُ منزلٍ لكما لتعيشا فيه وسوف نهتمُ نحنُ بكلِ شيءٍ آخر. الزواج ربما سيكون بعد تخرج كليكما فذلك سيعطيكما وقتاً أكثر للتعرف على بعضكما.. ثم بعدها ستعيشان جيداً وبسعادة."

كانت سويون تومئُ لي أيضا قبل أن تمتد يدها لحقيبتها وتخرج ثلاث صور بولارويديه وتمدها لي كي أخذها بيدٍ مرتعشة.

أخمنُ بأن هذه ابنتهما فقد كان اسمها مكتوباً بالأسفلِ بقلمٍ وردي في الحوافِ البيضاء للصورةِ وبجانبه قلبٌ صغير.. كانت تماماً كوالدتها.

كانت طويلةً ورشيقة، تقريباً بقدرِ نحفي والذي كان مخيفاً جداً، وشعرها طويل أملسٌ أسودٌ قاتم بخصلاتٍ أماميةٍ مقصوصةٍ على جبهتها.

لديها وجنتانِ دائريتان لطيفتان وأنفٌ مثالية لفتاةٍ مثالية. كان كلُ شيءٍ مثالياً فيها كما لو أنهم اقتصوا أجزاءً من عارضاتٍ ما وجمعوها جميعاً في جسدِ فتاةٍ سُميت إن سون.

في الصورة الثانية، كانت ترتدي مريلاً وهي تبتسمُ للكاميرا بينما تجلسُ بمكانٍ يبدو كالحديقةِ محاطاً بالأزهار والشمسُ تلمعُ على وجهها وقد طير النسيمُ بعض خصلاتها..

كانَ كلُ شيءٍ فيها مثالياً للحد الذي جعلني أرغبُ في التقيؤ..

في الصورةِ الأخيرة، كانت ترتدي فستاناً لائقاً بلا أكمام كما لو أنها ذاهبةٌ لحفلة وشعرها كان مستلقياً على كتفيها بضفائر رائعةٍ وقد بدت أكبر بكثير بكلِ هذا الماكياج للدرجةِ التي جعلتني أشعرُ بتلكِ الغصةِ تتصاعدُ إلى حنجرتي.

أردتُ أن أرمي بهذه الصور على الأرضَ.. لأن هذا.. هذا من المستحيلِ أن يحدث.

ولكني رفعتُ رأسي لأجد الجميعَ يحدقُ بي، وفجأةً أصبح هذا الشيءٌ واقعي الذي يجبُ أن أعيشه..

" إنها رائعةٌ جداً.. تبدو مثلكِ. ربما هذا الجمال متوارثٌ في العائلة." قلتُ و أعدتُ لها الصور.

خجلت سويون وشكرتني قبل أن تعيد الصور لحقيبتها وقد ابتسم زوجها أيضا.

" جميلةٌ هي، هذا صحيح.. هيَ فخرُنا وسعادتنا، وابنتنا الوحيدةُ أيضا. وهي متشوقةٌ كثيراً لرؤيتك.. لقد أتينا هنا لنناقش أمر لقائكما في الواقع."

ازدرتُ ريقي بصعوبةٍ ولكن أحداً لم يلاحظ وأنا أومئُ له.

" كنا قد أخذنا حجزاً هذا السبت في مطعمٍ لطيف لكليكما وبعدها سنأمرُ السائق بأخذكما في نزهةٍ حول المدينة كي تستمتعا أكثر. الأمر عادي، لذا لا حاجة للتكلف، فقط كن مرتاحاً. أهذا جيدٌ معك؟"

من المضحكِ كيف يظنون أنني برحابةِ صدرٍ سأنتظرُ السبت حتى يأتي، كما لو أنني لا أملكُ شيئاً أفضل لفعلهِ عدا الانتظارِ لفتاةٍ ما، لم أقابلها في حياتي وستكونُ عما قريبٍ زوجتي!

قلبي كان يؤلمني بشدةٍ للحدِ الذي بدأت فيه عيني تلسعني فرمشتُ بعينيّ لعلَ الرغبة بالبكاءِ تختفي.

والديّ كانا صامتان تماماً ولم ينظرا لي حتى، ولم يبديا رأياً بينما أنا أتفاوضُ مع شخصٍ غريبٍ في شؤونِ مستقبلي.

من الساخرِ جداً كيف خططوا لكلِ صغيرةٍ وكبيرةٍ لحياتي منذُ أن وُلدت.. ولا زالا مستمرانِ في هذا..

أردتُ الصراخ.. ولكنني فقط قلتُ أنني " لا أستطيعُ الانتظار حتى يحينَ يوم السبت " جاعلاً منهما يبتسمانِ بتوسعٍ معطياً لوالدي القدرة على التربيت على ظهري.

ابتعدتُ عن يدهِ وهو لاحظ ذلك لأنه سحبَ يده بسرعةٍ قبل أن يلاحظ الزوجان الآخران.

" رائع!" صفقَ إل كوك بيديه معاً.

" هذا رائع، سوف أجهز كل شيء وأعطي والديك رداً. ستكونُ إن سون سعيدةً جداً بلقائك ومعرفةِ أن كل شيءٍ سارَ على ما يرام."

بُودلت بعض الكلمات ببعضِ المعلومات والأرقام حتى نهضوا وتبعتهم أنا كذلك قبل أن يتصافحوا ويتبادلوا العناقات.

عطرُ سويون كان قوياً جداً للحدِ الذي شعرتُ فيه بأنفي يشتعل فابتعدتُ عنها جاعلاً منها تحدقُ بي حتى ما ابتسمتُ لها وانحنيت.

" إذاً افترض أننا سنكونُ على اتصال؟" قال والدي وهو يقودهم للبابِ الأمامي.

" نعم بالتأكيد!"

" وإن كلُ شيءٍ سارَ جيداً..." قالت والدتي.

" سوف نناقش بعدها أمر الصفقة وغيرها من الأمور؟"

أومأت سويون بموافقةٍ، ويدها تأخذُ يد والدتي وهم يسيرون بعيداً عني.

شعرتُ بأن جسدي انفصل لنصفين وقد أنهارَ كلُ شيءٍ من حولي.. فقط في بضعِ دقائقٍ استُخدِمتُ بدونِ إرادتي في الإبقاء على ثروةِ والديّ وجعلهما يحصلان على المزيد من الثروة.. حتى يستطيعان شراء المزيدِ من التحفِ الإيطالية، حتى يتبذخانِ أكثر في شراءِ المزيد من السياراتِ وقطعِ الأثاثِ الفرنسية.

تكومت يديّ لقبضاتٍ على جوانبي، وعندما أغلِقَ البابُ وسمعتُ صوتَ محركاتِ السياراتِ خارجاً، عادت والدتي للداخلِ وقد كانت تبتسمُ بشدةٍ.

" جيمين-"

" كيف أمكنكما؟!" صرختُ.

" كيفَ تجرأتما وفعلتما هذا بي؟ كيف تعدانِ كلَ شيءٍ هكذا فيما يخصني؟!"

كان صوتي عالياً للدرجةِ التي بدت والدتي فيها مذهولةً في صدمةٍ في مكانها وعيناها واسعتانِ لدرجةٍ لم أرها من قبل.. بعدها أتى والدي مسرعاً وهو يحدقُ بي.

" ما الذي تصرخُ بشأنهِ ؟!" صرخَ.

" ما الذي أصرخُ بشأنه؟! ابنك هنا يصرخُ لأنه أستُغِلَ!" صرختُ بصوتٍ أعلى.

" كيف بإمكانكما تدبيرُ زواجٍ كهذا وتتوقعانِ مني أن أكونَ بخيرٍ مع الأمر؟! فعلتُ كل شيء، كل شيءٍ طلبتماه مني وأردتماه ! ولكن هذا.. هذا كثير!!"

كان باستطاعتي الشعورُ بدموعي تغلي في عينيّ وحاولتُ بقوةٍ أن أتخلص منها لأنني لم أرغب بالبكاء.. ولكنني كنتُ مكتفياً.. وقلبي كان يصرخُ و يأمرني بالتوقف.. لأنه وعند هذه اللحظة، شعرتُ بأنني سأموت.

" أنا لن أتزوجها! لن أتساير مع هذا إلا وقد جعلتكِ تسيرين يا أمي بابنك الميت للمقبرة!"

" جيمين! لا تتجرأ على قولِ شيءٍ كهذا!"

" ليس الأمرُ كما تريدين بعد الآن! ليس لكم قرارٌ بمن سأتزوجُ أنا أو من سأحب!"

بدأت الدموع تنهالُ على وجهي وأخذتُ امسحهم بقوةٍ بكمِ قميصي قبل أن أفرك وجهي آخذاً نفساً عميقاً.

" هل تفهمان، أبي وأمي؟!"

نظرت أمي لأبي بصدمةٍ ولكن وجهه كان محفوراً بعبوسٍ لم أره من قبلُ في حياتي.

لم يكن يبدو حتى كوالدي.. لم أجد في ملامحه شيئاً مني.. كان الأمر يخيفني حين أتخيل قدومي من أناسٍ كهؤلاء.

توقعتُ منه أن يأتي إليّ مسرعاً، ويصفعني ملقياً إياي على الأرض ويصرخُ عليّ ويؤنبني على الطريقةِ التي تحدثتُ بها معهما.. ولكنه لم يقل شيئاً.. وكان هذا أسوأ.

صمتُ والدي.. كان دائماً الجوابَ الأسوأ.

" أتظنُ أنك حقاً لن تنفذَ أوامري بارك جيمين؟ هاه؟" سألني.

لم أتجرأ على إجابته ولكن عوضاً عن ذلك شددتُ سترتي عليّ أكثر ومسحت السائل الذي كان يسيلُ من أنفي المبللِ بدموعي.

" أحقاً بصراحةٍ تظنُ بأن باستطاعتك ألا تذهب وتقابلها يوم السبت؟ وأنك ستتغيبُ عن الميعاد بكلِ بساطة؟"

تحركَ والدي بمحاذاةِ أمي التي حاولت إمساك ذراعه ولكنه أبعدها عنه.

" عزيزي-"

رفع والدي كفاً لها مصمتاً إياها جاعلاً مني أشعرُ بركبتيّ تهتزان بخوف من أن يتقدم نحوي خطوةً.

والدي لم يكن يوماً شخصاً تعبثُ معه..

" إن تغيبت عن هذا الموعد في يومِ السبت، و إن قمتَ بأي شيءٍ وأفسدت فرصتي في هذه الصفقة وأفسدت عليّ تنميتي لأموالي التي أخطط لأحصل عليها، فأنا أعدكَ بأن أقومَ ' شخصياً ' بتحويلِ حياتكَ لجحيمٍ لا يحمدُ عقباه."

ارتعشت شفاهي فابتسم ساخراً وهو يتقدمُ إلىَّ ممسكاً بفكي بقسوةٍ بيدهِ مجبراً إيايّ على النظرِ إليه بينما أنا أكافحُ للتخلص من قبضته.

" أتعلمُ كيف سأفعلُ ذلك.. بُني؟"

عندما لم أتفوه بكلمةٍ، هزني بقوةٍ وهو يحدقُ بي فهززتُ رأسي بسرعةٍ بدفاعية.

" ك - كلا.."

لعقَ شفتيه وأومأ ببطءٍ.

" قُم بفعلِ شيءٍ يفسدُ ما أريدهُ وأنا سأفجرُ بمنزلِ تايهيونغ هذا! وللأسف، لن أخذَ حياته فقط، بل حياة والدهِ كذلك! ربما والدهُ المثيرُ للشفقةِ ذاك سيعود لأحضانِ زوجته أخيراً."

توسعت أعيني وأنا أشعرُ بما تبقى من قلبي يسقطُ بين أقدامي قبل أن أناهض للتحررِ من قبضته بكلِ قوتي وهو يشدُ على فكي أكثر.

"ك - كلا! كلا كلا! "

" لا لا يا بني.." هزَ رأسه ضاغطاً على شفتيّ معاً.

" لا تفزع هكذا ولا تفعل شيئاً تندمُ عليه لاحقاً، حسناً؟ سأعلمُ إن حاولت إخبار تايهيونغ بشأن هذا ولا تفكر.. أن تخبر الشرطة بارك جيمين!"

تساقطت دموعي على وجهي مجدداً فتنهدَ والدي قبل أن يمسحهم لي بأناملِ يدهِ الحُرة مربتاً على رأسي.

" لا تبكي يا بني، أعلمُ بأن الأمر محزنٌ ومؤلم ولكن إن كنت تحبُ صديقكَ حقاً فلن ترغب بجعلهِ يتأذى، صحيح؟ أومئ لي إن كنت قد فهمتني."

أعمت الدموعُ بصيرتي.. تمنيت.. تمنيتُ لو أهربُ واختبئُ عن هذه العائلة.. عن كلِ هذه الدولة.. ولكن لأنني لا أستطيع، استمررتُ بالبكاء، واستمر هو بسمحِ دموعي..

" فلتومئ لي جيمين.."

هز والدي رأسي للأعلى والأسفل إجباراً ثم ابتسم لي بهدوءٍ قبل أن يقترب ويُقَبِل جبهتي ، ولكنه وبعد ابتعاده.. دفعني عنه بقوةٍ جعلتني اسقطُ على الأرض.

" غير ملابسك. يمكننا مناقشةُ الأمر أثناء العشاءِ لاحقاً."

عدلَ ياقةَ سترتهِ قبل أن يسير مبتعداً.

رميتُ نظرةً لوالدتي.. بدا شكلها غريبةً عبر دموعِ عينيّ، فقط وجهها كان واقفاًً بين خليطٍ من الصدمةِ والخوف والحزن، ولكن لِمَن؟

صنعت خطوةً لتأتي إليّ وترى إن كنتُ بخير، تمدُ يدها نحوي ثم ترجعها بترددٍ.. وقبل أن تقرر فعل شيء، كان والدي قد ناداها.

عميقاً في بقعةٍ مني، أردتُ تصديقَ كونِها ستهتمُ بي أكثر من زوجها.. ولكنها وقفت وحدقت بي وبحيثُ والدي ذهب، ثم هزت رأسها وهمست " أنا آسفة " قبل أن تذهبَ إلى حيثُ ذهب..

وهكذا، كلُ قصاصةِ أملٍ امتلكتها، كلُ قصاصةٍ أخيرةٍ تبقت بي، ماتت بمجردِ إدارتها بظهرها لي..

كورتُ جسدي وجلبتُ ركبتي لصدري وقد بدأتُ أبكي بينما تهتزُ أذرعي حتى شعرتُ بكلِ جسدي يهتزُ مع تلكَ الشهقاتِ العنيفةِ تغادرُ صدري...

لم أنزل يومها للعشاءِ حينما قاموا بندائي.

بعد دقائقٍ توقفوا عن ندائي وعرفتُ بأنهم لن يأتوا ويجلبونني غصباً.

بقيتُ في غرفتي طوال الوقت، متمدداً على سريري تحت تلالٍ من البطانيات.

يؤلمُ الأمرُ حينما أبكي، جسدي يصبحُ جافاً ومنهكاً، لذا حاولتُ إرجاع دموعي كلما أتتني الرغبةُ بالبكاء ولكن في كلِ مرةٍ كنتُ أتذكرُ فيها تلك الصور تلسعني عينيّ.

جلستُ على سريري بهدوء وحدقتُ في النافذةِ وما خلفها وقد أصبحت السماء مظلمةً وتلك الشجرةُ الكبيرة الواقفةُ خارجاً تضربُ بزجاجِ النافذة كلما هبّ الريح.

أتساءل.. كم سيكونُ من السهلِ القفزُ من هذه النافذةِ وصولاً إلى موتي؟

 

***

 

Like this story? Give it an Upvote!
Thank you!

Comments

You must be logged in to comment
No comments yet