حياةٌ ظالمة

عاجزٌ عن مساعدتكَ أو إشفائك

الفصلُ الأول : حياةٌ ظالمة.

الخميس.. يفترضُ أن يكره الجميعُ يوم الخميس، فيوم الخميس هو أسوأ يومٍ في الأسبوع.

لماذا؟ كلمةٌ واحدةٌ تشرحُ كل شيء، كرةُ المراوغة.

كانت تلك الورقةُ الرقيقةُ تستهزئُ به بلونها الأصفر وهي تصرخُ لكلِ الفصل إخباراً بالحدثِ الرئيسي لهذا اليوم.

مسح تايهيونغ جانب وجهه بكفٍ قبل أن يزدردَ ريقاً مشيحاً بنظرهِ لصديقهِ الذي كان يحاولُ الوصولَ إليه.

نظرَ جيمين لوراءِ كتفِ تايهيونغ وهو يقفزُ برجلٍ ليثبت الحقيبة على كتفهِ قبل أن تتوسع عيناه.

" آوه آوه.." أخرج جيمين نفساً عميقاً.

" آوه أجل.." تذمرَ تايهيونغ.

بضعةُ فتيانٍ كانوا يتضاحكون في مجموعة، دخلوا صالة الرياضة بينما آخرون كانوا يتراكضون خلفهم وتايهيونغ وجيمين يشاهدان فقط قبل أن يربتَ الأخيرُ على كتفِ الأول.

" لا بأس، إنها فقط لعبةُ مراوغة.. يـ .. يمكننا فقط أن نحاول الانسحاب منذُ بدايةِ اللعبة ثم التشجيع فقط جانباً" طمأنهُ ولكن تايهيونغ لم يرتح بتاتاً.

كرةُ المراوغة تعني" وون يو " و " وون يو " يعني " متاعب ".

إن لم يكن الأمر أنه ملزمٌ بمراقبةِ جيمين كي لا يصابَ بشيءٍ خطير فهو مضطرٌ أيضا لمجابهةِ مُعذِبهِ الأعظم ذو الشعرِ الأشقر والأطراف المعضلة، وون يو.

كان تايهيونغ متأكداً من أن وون يو يضحكُ الآن في مكانٍ ما في الداخلِ مفكراً في طرقٍ لإعادةِ ترتيب ملامح وجههِ بالكرة.

" هيا، دعنا ندخل وإلا تأخرنا."

سحبَه جيمين للداخل من معصمهِ بينما تايهيونغ يحاولُ تجاهلَ التدقيقِ في مدى نحفِ هذه الأناملِ التي تجرهُ الآن لغرفةِ التبديل.

معظمُ الفتيان كانوا يضعون ملابسهم جانباً ويغيرون ملابس الرياضة بينما يتذمرون وآخرون كانوا متحمسين للعبة.

شعرَ تايهيونغ بمعدته تمتعض وتتلوى بقلقٍ قبل أن يقفا أمام خزائنهما الخاصة ويبدأ كلاهما بتغيرِ ملابسهما أيضاً.

 

حاولَ ارتداء ملابس اللعب سريعاً حتى يعطي نفسهُ وقتاً أكثر ليستعد عقلياً ولكن عيناه ثبتتا على صديقهِ بجانبه..

للحظةٍ، شعرَ أن قلبهُ سقط ووقعَ بين قدميه بينما غصةٌ اختنقت في حنجرته.

بدا جيمين أنحفَ كثيراً من الخميسِ السابق - لو كان ذلك ممكناً-

جلدهُ ملتصق بعظمهِ تماماً وكأنه قد رُشَ بالطحينِ لشدةِ شحوبه. لونُ بشرتهِ الأسمر كان قد باشر بالاختفاء وقد بدت بشرته تصفرُ في بضعِ مواقعٍ من جسده، كركبتيهِ ومرفقيه.

الفجوةُ بين فخذيه كانت كبيرةً جداً، حتى ظنَ للحظةٍ أنه سيستطيع وضع ذراعيهِ بينهما.. وصدره كان غارقاً للداخلِ حتى ظنَ أنه سيستطيع عدّ ضلوعهِ.

ربما شعرَ جيمين بعيونٍ عليه، لأن بضعة فتيانٍ كانوا أيضاً يحدقون به، لذا بسرعةٍ أكمل ارتداء القميص الأحمر والسروال قبل أن يحدقَ أيٌ منهم أكثر.

" جيمين-" بدأ تايهيونغ بالحديث ولكنه قوطعَ من قبلِ جيمين.

" أرجوك، ارتدي ملابسك بسرعة. لا نملكُ وقتاً."

" ولكنكَ -"

" أرجوك!"

تلك النظرةُ في عينيّ جيمين.. كانت مستميتةً جداً لدرجةٍ لم يستطع فيها تايهيونغ أن ينبس ببنتِ شفةٍ.

---

جانبانِ.. جانبانِ بفريقانِ مختلفانِ ونوعانِ مختلفانِ أيضاً.

كانت تايهيونغ في أتمِ الدرايةِ عما سيؤول إليهِ كلُ هذا، لذا أخذ يستذكرُ آخر مرةٍ أخبرَ فيها والده أنه يحبه، ثم نظرَ للفريقِ المعاكسِ أمامه بتوترٍ.

بوضوحٍ، أغلبهم كانوا فتياناً مجسمين رياضيين، بينما بعضٌ آخرون قد يجلبون الحظ لفريقه.

إن لم يموتوا، فسيكون ذلك بفضلِ تشوي مين هو، جونغ هوسوك، تشانغ مين، جاكسون، ومارك. هؤلاءِ كانوا الأمل الوحيد في فريقه للنجاة.

باختصار، كان يفضل فقط الهروب من الصالة، ولكن الصفارة سُمِعَ صوتها وبدأ اللاعبون بالاندفاع نحو الكرات فأخذ فوراً يتمتمُ بدعوةٍ أخيرة..

" تحرك!"

" خذها!"

" فلترمها في وجهه! "

" خارج اللعبة بسرعة!"

" سيحتاجُ للذهاب لغرفةِ الممرضة.."

" تباً سيترك هذا الجرح ندبةً أبدية!"

" وووهووو!"

الكراتُ تتطايرُ في كلِ الأرجاء، الفتيان يصرخون, بينما تايهيونغ يواجهُ وقتاً عصيباً في المراوغةِ من جانبٍ لجانبٍ ملتقطاً الكرة من حيث أتته ليرمها بكلِ ما أوتي من قوة.

كان مينهو قد منع آخر كرةٍ من الاصطدامِ بجفنهِ لترتد بجانبِ رأسه.

جيمين كان قد خرج من اللعبة بعد مرورِ عشرِ دقائقٍ ولكن تايهيونغ لم يشعر بأي يسرٍ بتاتاً، لأن وون يو كان الآن.. يحدقُ به مباشرةً، مع تلك الابتسامةِ الساخرة وتلك النظرات المظلمة في عينيه التي دائماً ما كان يطلقها إذا ما تمت محاصرةُ تايهيونغ من قِبَلهِ.

حاولَ تايهيونغ أخذ نفسٍ عميق واستمر بالتحركِ ولكن التنفس كان صعباً، لذا لم يكن بيده سوى الاختباء خلف جاكسون انتظاراً لأن يُضرَب.

حاول مارك مراوغةَ إحدى الكرات ولكنه كان بطيئاً قليلاً فضُرِبَ بدلاً عن ذلك.

خائفاً قليلاً، التقط تايهيونغ الكرة ورماها.

كانت تقريباً قد لامست جانبَ وجهِ مون هي الذي أصبح أحمراً الآن.

التفت له كل شبابِ الفريقِ المعاكس بينما وون يو أخذ كرةً ورماها مباشرةً نحو تايهيونغ.

" كيم تايهيونغ!!"

عرفَ تايهيونغ أنه سيموتُ اليوم لا محالة..

 

---

" ياللهول، لا زلتُ متفاجئاً من أنه لم يحطم طقمَ أسنانك." تمتم جيمين.

أبعد تايهيونغ كيس الثلج من خدهِ الأيمن محدقاً بصديقه بنصفِ وجهٍ متورم قبل أن يعيدها مجدداً لخده.

لحسنِ الحظ لم يمت، ولكنه كان يعاني من ألمٍ فظيعٍ بمجردِ أن استعاد حواسه.

تلك الكرةُ كانت قد رجت رأسه حتى ما أغشي عليه فأخِذَ فوراً للممرضة معتذراً من حضور الصف.

كان يعلمُ بأن وون يوو يستطيعُ فعل الأسوأ، وون يو نفسه يعلمُ بكونهِ يستطيع فعلَ ما هو أفضلُ من هذا! وهذه الحقيقةُ جعلت تايهيونغ لا يزالُ متوتراً لأنه يعلمُ بأنه من المستحيلِ لوون يو بالاكتفاء بهذا.

لحسنِ الحظ، كان وقتُ الغداء الآن، والساحةُ كلها محشودةٌ بالطلبة الذين كانوا يتحدثون خارجاً، يقرؤون على العشب ويستخدمون الإنترنت بهواتفهِم بينما يتضاحكون على فيديوهات اليوتيوب.

لم يستطع تايهيونغ تناولَ شيء لأن فكهُ كان يؤلمه ولكن معدته كانت تتلوى باحتجاج بينما يغمضَ عينيه محاولاً إخبارها أن تصمت.

"أظنني سأذهبُ كي استلقي قليلاً في غرفةِ الموسيقى.." تمتمَ.

بعد الغداء، كليهما لديهما نفسُ الصفِ معاً لذا سيمكنهما أن يلتقيا على أي حال.

التفت جيمين للأعلى قلقاً وتحرك كي يقف ولكن تايهيونغ أوقفه قائلاً " أنت اجلس هنا و.."  صمت قليلاً وحدقَ لصحنِ غداءِه الذي حوى علبتيّ حليب وتفاحة.

ومبتلعاً ريقه أكملَ : " تناول هذا."

ترددَ جيمين، بدا كلاهما وكأنهما سرحا لدقيقةٍ -واحدٌ في التهكمِ من كلِ هذا وجيمين من الالتماس الصامت الذي يرسلهُ له صديقهُ بعينيه -.

" أنا سأستلقي قليلاً على الأرائك ولكن قابلني هناك، حسناً؟"

" حسناً.." تأففَ جيمين.

ابتسم تايهونغ خلسةً وجمع أشياءه قبل أن يبعثر شعر الأصغرِ المُسود ويذهب بدونِ أي كلمةٍ أخرى.

---

الممراتُ كانت فارغةً حول ساحةِ الدراسةِ مجدداً.

تثاءبَ جيمين فاركاً عينيه وهو يقلبُ أوراق كتابِ التشريح. بعضُ الطلابِ كانوا يدرسون جانباً والبعض على حواسيبهم والبعضُ كانوا يدردشون.

كان تايهيونغ يراسلُ جيمين باستمرار ولكن بعد وقتٍ أغلق جيمين هاتفه لعله يركز، أو على الأقل يحاولُ بقدرِ استطاعته.

بصراحة، كان يشعرُ بالتشويش قليلاً, لذا وضعَ رأسه على كتابهِ فوقَ كرسيه محاولاً إيقاف عقلهِ عن الدوران.

انتظر بضعَ دقائقٍ ثم استوى مجدداً وارتشف من مائه قليلاً قبل أن يعود للكتابِ مجدداً.

كان باستطاعته سماعُ بعض الفتياتِ يتهامسنّ بجانبه، وعندما التفت لهن رأى فتاةً بشعرٍ أسودٍ طويلٍ توَّسِعُ عينيها ثم تشيحُ وجهها عنه والأخرى تختبئُ خلفَ كتابها.

لم يكن الأمرُ غير اعتيادي بالنسبةِ له، في الواقعِ غالباً ما يرحبُ بذلك بطبيعة.

هو يعلمُ بأن الناس يحدقون به بينما يمشي في الممراتِ بجانبِ تايهيونغ، ويعلمُ لماذا انكمشِ الفتيان عنه في غرفةِ التغيير، ويعلمُ بماذا يتهامسون عنه في المدرسة، فالكلُ قد رأى الأمر..

الإشاعات كانت الأروع لديه ليستمع إليها، عن كيف هذا الفتى " يتضورُ جوعاً في منزله " أو " والداه لا يستطيعان توفير الطعام لأولادهم في منزله " أو ربما أنه " طُرِد من شركةِ ترفيه لأنه كان بديناً كثيراً فأجاع نفسه. "

لم يكن باستطاعته تبديد هذه الإشاعات في المدرسة، لا يملكُ طريقةً يجعلهم يصدقون فيها ما يقولهُ ولكنه لا يريدُ تضييع وقتهِ في هذا أيضاً.

نعم هو يُجَوِع نفسهُ، ولكن ليس لأن والداه كان يفعلان ذلك له، ليس لأنه يملكُ العديد من الأشقاء أو لأنه أدى اختباراً في شركةٍ ما.

والداه أعميا عيناهما عن هذا الأمر، وهو لديه شقيقٌ أكبرٌ واحد قد أصبح في الجامعة، وأن يكون فناناً هو آخرُ شيءٍ سيفكرُ فيه..

يحتاجُ لأن يفعل هذا، هذه الطريقةُ التي تجنبهُ اكتساب الوزن كي يكونَ مثالياً.

في نظرِ جيمين، لم يكن هذا يعيقهُ أو يؤلمه، كان يكافحُ كي يصبحَ نحيفاً، كي يثبت لأولئك الذين كان يسخرون منه لكونه يملكُ "خدوداً ممتلئة " و " بطناً مهتزة " في الابتدائية، أنه لم يعد نفسَ الفتى السمين في وقتِها، الذي يأكلُ ويأكلُ كلما رأى طعاماً.

أصبح الأمرُ اعتيادياً، أصبحَ روتيناً، ولو رأى أولئك الفتيان لضحِكَ عليهم وتباهى بشكلهِ أمامهم.

جسدهُ كان نحيفاً، ربما ليس نحيفاً كفايةً ولكنه يصلُ لتلك الكلمة الآن. وجنتاه لم تعودا تبدوان كما كانتا، وبطنه أصبحت شبه موجودة.

كان قد أحرز تقدماً في هذا الوقتِ الطويل من السنينِ حتى نهايةِ ثانويته -وعليه أن يستمر كذلك -، عليه المحافظةُ على حميته كما فعلَ دائماً.

بمجردِ أن يصل لهدفه، سيكونُ بخير، ولن يهتم بمن يحدقون به أو يتكلمون عنه.

أدنى بالقبعةِ على رأسه وأخذ نفساً طويلاً قبل أن يسحب هاتفه من جيبه ويعيد تشغيله.

فوراً أغرقت الرسائل الشاشة من تايهيونغ ليهز برأسه قبل أن يقومَ بفتحها.

مِن تاي:

يا! أين أنت؟

لا زلتَ تدرس؟ هل أنت في المكتبة؟ همم.. إذاً ادرس بجد.

يا! بارك جيمين! أجبني.. الآن!

حسناً.. اذهب للمنزل وحدك لأنه يجبُ عليّ أن أتأخر أكثر، معلمُ الإنجليزية الغبي ><

 

مِن جيمين:

حسناً! هل يمكنني القدومُ لمنزلك لاحقاً كي نكمل مشاهدة فيلم ' خمسة سنتيمترات في الثانية'؟

 

مِن تاي: أجل!

 

أخذ جيمين أشياءه بعد قراءةِ الرسالة خارجاً بعد دقيقةٍ من المكتبة نحو ساحةِ المدرسة.

السيرُ لمنزله لم يكن بعيداً، فقط ربعُ ساعة.

مع مرورِ الوقت، كونت الشمسُ غلافاً على رقبته بطبقةٍ من العرق عندما كان يمشي آخر خطوتين أمام بابِ منزله الأمامي.

صمت..

الصوتُ الوحيدُ الذي كان يدله على وجودِ أبويه في المنزل كان صوت كعبِ والدته النازل من أعلى الدرج وتلك السيارات الفخمة المرتصه أمام الباب.

عندما رأت ولدها أخيراً، أعطته فقط نظرةً ثم أومأت لهُ برأسها قائلةً :" تبدو متعباً. اذهب وتأكد من أن البذلة في غرفتك تناسبك لحفلة نهاية هذا الأسبوع."

ابتلع جيمين ريقه وبدونِ كلمةً أومأ وهو يشقُ طريقه بهدوءِ للأعلى.

على الأقلِ والدته كانت تلاحظُ ما يقومُ به ليصل للمثالية..

---

 

تمنى تايهيونغ لو أنه سار للمنزل مع جيمين.. كان يجبُ عليه الانتظار في المكتبة ليذهبا معاً بمجردِ أن ينتهي، ولكنه اضطر للتأخر فاليوم كان دوره.. كالعادة.

كان من اللازم أن يقولَ أن الحياة غير عادلة.. غير عادلةٍ لأن وون يو وأصدقائه اختاروه اليوم أيضاً.. كان من غير العادلِ إخراجهم لعنفِ مراهقتهم عليه هوَ، وكان غيرُ عادلٍ أكثر أن أحداً لم يحاول إيقاف ما يحصل.

كان يفكرُ في شيءٍ جعله يستحقُ حياةً كهذه ولكنه قرر ألا يفعل حالياً، فعقله كان قد فرغَ تماماً، لأن جمجمته أخذت تتلقى ضربات جديدة مجدداً.

زفرَ وون يو من أنفه بانزعاجٍ وهو يستندُ بظهره على الحائط الطوبي لمبنى المدرسة.

نظرةٌ لساعته جعلته يدركُ أن خمسةً وأربعين دقيقةً قد مرت منذُ انتهاء الدوام ولكنه فقط أخذ يعدلُ من سترته الجلدية ليكون أكثر ارتياحاً.

بالرغمِ من أن الربيع تقريباً قد اقترب وأن الطقس قد بدأ يعتدل إلى حدٍ كبير، ولكن الشمس التي كانت تبرقُ بشدةٍ جعلت غلافاً من العرقِ يكسو جلده وشعراتِ قفا رقبته تلتصقُ برقبته.

أخذ نفساً من سيجارته بين شفتيه، مستنشقاً التبغ قبل أن يزفره خارجاً.

سحابةُ الدخانِ عمت الهواء حوله قبل أن يلوح بيديه ويرمي السيجارة على الأرض طاحناً إياها تحت قدميه.

صرخةٌ سُمِعت ملحقة بأصواتٍ أخرى حتى ما سمع صوت ارتطامٍ على الأرض وقد كاد ينسى وون يو ما الذي جاء به إلى هنا تقريبا..

أبعدَ نفسهُ عن الحائط واستدار بتكاسلٍ، تراقبُ عيناه المشهد أمامه وهو يمشي مقترباً لينظر بتمعنٍ أكثر لأولئك الثلاثةِ فتيان المتجمعين حول شخصٍ مرمي على الأرض.. شخصٍ يدعى تايهيونغ..

كان تايهيونغ يحاولُ صد الضربات والركلات بحماية وجهه بذراعيه وتلويةِ جسدهِ للداخل، ولكن بقية الفتيان كانوا معصوميّ القوةِ يحاولون الحصول على وضعيةٍ تمكنهم من ضربهِ أكثر.

أطولهم، هان يول، كان يحرك قدميه للأمام معهم منهالين عليه ينتزعون من تايهيونغ الذي كان يحاولُ النهوض وتحرير نفسه منهم صرخاتٍ عالية.

بون هوا و مون هي، الأنساب اللذان كانا أصغر منه بسنة، كانا يرميان له ركلةً خلف الأخرى في كلِ جانبٍ من وجهه، ذراعيه أو صدره، و أياً ما تصلُ له أقدامهما من مكانٍ في جسده.

عندما سمعَ وون يوو صوت عظام تايهيونغ التي أصدرت صوتاً مميزاً بعد أن وجهَ مون هي ضربةً حادةً متبوعةً بصرخةٍ من الفتى المتلوي عند أقدامهم في أنفه، تنهدَ ونده قائلاً :" هذا يكفي.. "

رَكَلهُ هان يول ركلةً أخيرةً قبل أن يبصق عليه.

خطى بون هوا خطوةً للخلف ساحباً خلفه مون هي ليميلَ وون يو برأسه قليلاً محدقاً في الفتى الذي يحاولُ حماية نفسه من أي ضربةٍ أخرى قادمة.

يداه كانتا مجروحتين، ومفاصله كانت داميةً من محاولةِ الدفاع عن نفسه بدونِ حولٍ ولا قوة.

جثمَ وون يو للأسفل ساحباً تايهيونغ من ياقةِ قميصه جاعلاً من رأسِ تايهيونغ يترنحُ بلا وجهةٍ وعيناه تحدقان في الأرض.

شفتاه كانتا غارقتان بالدماءِ الذي أخذ يسيلُ من فمه وزيهُ المدرسي بات مجعداً ومبقعاً ببقعٍ حمراء لوثت لونهُ الأبيض.

عينه اليسرى كانت متورمةً مسودة وكان لديه أقطاعٌ تتألقُ على وجهه وكدمةٌ أسفل وجنته.

الضررُ الأكبر كان في أنفه التي استمرت بنزفِ سائلٍ أحمرٍ بلا توقف مما جعل تايهيونغ يتنفس بصوتٍ عالٍ متقطع بينما يحاولُ تمالك نفسه.

" انظر إليّ.." همس وون يو جاراً ياقةَ قميصه بقوةٍ بينما تايهيونغ أخذ يسعلُ مخرجاً دماً أكثر مترنحاً.

عينهُ الواحدةُ التي كانت لا تزالُ شبه مفتوحة، ببطءٍ ارتفعت كي تحدق في الفتى الأطولِ لترتجف شفتاه وتعتصر معدته، ليس فقط من الألم الذي كان يعصر أضلاعه، بل من تلك النظرةِ في عينيّ وون يو.

" في المرةِ القادمة، ستفكرُ مرتين قبل محاولةِ رمي أحدنا في لعبة الكرة همم؟ " أنهى الجملة وشفتيه ترتجف من الغضب.

أومأ تايهيونغ بارتعاش محاولاً التركيز والنظر في عينيه كما أمره ولكنه شعر أن الأمر يزدادُ صعوبةً أكثر وأكثر بينما كان يقفُ على قدمين مجروحتين ورأسٍ يكادُ ينفجر.

" أجبني!" نبحَ وون يو وهزَهُ للأمام مقرباً إياه حتى أصبحت أنفاسه التي اختنقت بالتبغ والكحول تلاطمُ أنف تايهيونغ.

" ح- حسناً ! " صرخَ تايهيونغ.

" سأفعل.. لن أعترض.. ط .. طريقكم.." تمتم شاعراً بدمٍ أكثر يغادر أنفه ويسيلُ على شفتيه.

ارتفعت زوايا شفاه وون يو لنصفِ ابتسامةٍ وقهقه قبل أن يمد يده مربتاً على شعرِ تايهيونغ الذي انتفض فزعاً مسبباً لوون يو أن يضحك أكثر.

" لن أقوم بضربك."  قال لاعقاً شفتيه المشققتين.

" ليس الآن على الأرجح.. فقط لا تقم بشيءٍ يغضبني، حسناً؟"

رمشَ تايهيونغ والشمسُ تسطعُ عليه جاعلةً عيناه كالأحولِ وهو يومئ برأسه ببطءٍ شديد.. وقتٌ قليل تبقى وسيغمى عليه..

" حسناً.. ح.. حسناً." تمتم وشفتاه ترتجفان.

ابتسم وون يو، فخوراً بهذا الجواب وترك ياقته تاركاً تايهيونغ يسقط على الأرضِ صارخاً وقد اصطدمت ذراعاه بتلك الأرض الخرسانية.

ابتسم له ابتسامةً أخرى قبل أن يلتفت لأصدقائه مشيراً لهم بالرحيل.

" انتظروني في الاستديو"

أومأ هان يول وحدق بتايهيونغ بتقززٍ قبل أن يتبع مون هي و بون هوا نحو بوابةِ المدرسةِ الأخرى.

حدق وون يو بتايهيونغ بتلك النظرةِ الغريبةِ التي جعلت الفتى المسكين يحاولُ أن يركز ويتأهب لأي حركةٍ أخرى، أي ركلةٍ أو لكمةٍ أو صفعةٍ جديدة أخيرة تفقده وعيه.

حاول ابتلاع الغصة في حنجرته ليطعم طعم الدماء التي كانت تسبح في فمه.

أرادَ تايهيونغ أن يستعد للضربةِ القادمة ولكنه باستسلامٍ قبض بقبضتيه على جانبيه ورفع عينيه بصعوبةٍ محدقاً في هذا الفتى الشاهقِ أمامه وقد سطعت الشمسُ على خصلاتِ شعرهِ الشقراء وأضفت لبشرته الشاحبةِ توهجاً أثيرياً جعل معدته تتقلصُ بإحكام.

" لا تجعلني أؤذيك مجدداً.." قال دافناً يديه في الجيبين الأماميين لسترته.

" في المرة القادمة لن أتردد في التسبب بضررٍ أكبر وكسرِ قدميك."

حطَ وون يو عينيه على تايهيونغ للمرةِ الأخيرةِ قبل أن يستدير مختفياً في نفس الوجهةِ التي ذهبوا لها أصدقائه، تاركاً إياه هناك.. خلفه.

بطريقةٍ ما، استطاع تايهيونغ أن يسحبَ نفسه على قدميه بتلك الحرارةِ تثقبُ جلده وتسببُ توجعَ جسدهِ أكثر.

لأن الدوام كان قد انتهى، لم يكن هناك أحدٌ في الممراتِ بتاتاً فسارَ عبرها شاقاً طريقهُ نحو مكتب الممرضة.

لم يهتم بالطرقِ على الباب ولكن بدلاً عن ذلك فقط دفعهُ بيده المجروحةِ جداً وبمجردِ أن دخل للداخل وواجه تلك الممرضة هناك وجهاً لوجه وهي خلف طاولتها، رفعت رأسها مذعورةً وقد أسقطت الملفات من يديها.

" يا الهي!" هتفت بعينينِ واسعتين.

ركز تايهيونغ على تلك اللوحةِ خلف رأسها بطفلٍ يبتسمُ على فخذِ والدته بينما هي تضعُ لاصقاً على ركبته.. وبتلك الأسنانِ التي أبت أن تتحرك إلا وقد ضخت دماءً أكثر من فمهِ قال : " أ .. أرجوكِ .."

حاول أن يمسك بالطاولة ولكن يده انزلقت فترنح جسده يساراً بقلةِ توازن .

" س.. ساعديني.."

قفزت من كرسيها ووثبت إليه كي تمسكه قبلَ أن يسقط ولكن كلَ ما تذكرهُ تايهيونغ بعدها كانَ السواد..

الفراغ..

الصمت..

الدوار..

والظلمة..

---

جدرانٌ بيضاء مع مغلفاتٍ ورقية فراولية تبطنُ الحواف، أنوار.. أنوارٌ ساطعة معلقةٌ على السقف، وصوتُ قرعِ لوحةِ مفاتيح حاسوبٍ ما.

استيقظ تايهيونغ ببطءٍ، عيناه ترمشان وتزيلان كل البقع البيضاء المبهمة معيدتان كل شيءٍ لمكانهِ الصحيح في مجال رؤيته.

فتحَ فمهُ ليبلع ريقه ويدرك أنه يستطيع التنفس بسهولةٍ أكثر الآن وأنه لا يشعرُ بالدماءِ تقطرُ في حنجرته.

نظر لجسدهِ ورأى أن ملابسه قد تغيرت لسروالٍ وهودي رماديةِ اللون كانت كبيرةً جداً عليه ولكنه طبعاً لم يكن ليتذمر، كانت أكثر أريحيةً من زيه المدرسي.

التفت ليسارهِ وعلى كرسيٍ رأى ملابسه مكومةً مليئةً بالقطوعِ والبقعِ الحمراء.

كان هناكَ بابٌ على يمينه يؤدي إلى حيث يرى ظهرَ أحدهم وهو يطبعُ شيئاً على الحاسب.

أرادَ أن يحاول النهوض والسير للخارج ولكن في اللحظةِ التي حاول فيها تحريك ذراعه، تأوهٌ حادٌ غادر فمه ليعيد الاستلقاء مجدداً على السرير النقال.

أياً يكن مَن كان يجلس على ذاك الكرسي، كان قد سمعَ صوته بالتأكيد لأنه وبعد دقيقةٍ، كان باستطاعةِ تايهيونغ سماع خطوات الكعبِ تطرقُ على الأرض المبلطة.

رفع رأسه ليرى امرأةً رشيقةً بشعرٍ أسودٍ طويل مرفوعٌ بدبوسٍ دخلت بابتسامةٍ رقيقة.

" مرحباً، كيف تشعرُ الآن؟"

عندما اقتربت، بترددٍ أحست جبهته واعتبرت أنه بخير طالما أن الحرارة المشتعلة التي كانت عليه عند قدومه لم تعد موجودة، ولكنه لا زال دافئاً بعض الشيء.

تنهدَ تايهيونغ مع تلك اليدِ الباردةِ وشعر بعضلاته ترتخي بينما رائحةُ الفانيلا التي وهبتها له اخترقت رئتيه وملأتها.

" أنا بخير." قال بهدوء.

أعطته الممرضة ابتسامةً مطمئِنة قبل أن تمسد على رأسه مخرجةً تنهداً.

" أتريدُ إخباري بما حصل معك؟ مَن فعل هذا لك؟"

بقيّ تايهيونغ صامتاً وطأطأ برأسهِ.. كان خازياً من قولِ ما حصل بصوتٍ مسموعٍ عالٍ، رغم أن البرهان في جسده يشرحُ كل شيء.

لم يكن ينوي قولَ شيءٍ طوال بقائه حياً في الواقع..

عندما خمنت الممرضةُ أنه لن يتحدث، أخرجت نفساً عميقاً وحاولت مجدداً.

" هل فعل أحدهم في المنزل شيئاً لك؟ والدك أو والدتك؟"

صوتها كان رقيقاً، مُسكِناً.. ويهدئُ قلبه المتسارع ولكنه كان يشعرُ أيضاً بقبضتيه تتعرقان وشيءٍ قلقٍ يستقرُ على صدره.

هزَ رأسهُ بسرعةٍ وتمتمَ : " ليسا أبويّ."

في الواقع، لم يكن تايهيونغ يعلمُ ما سيقوله والده بالضبط، بالطبع سيكتشف والده الحقيقة لأن المدرسة تملكُ سياسةَ التواصل مع الأولياء.

لا يريدُ تايهيونغ رؤية تلك النظرةِ على عينيّ والده، ولا حتى سماع ما سيقوله.

تلك النظرةُ تضيفُ المزيدَ من الألم، تلك النظرةُ لا تساعدُ كرامتهُ بتاتاً.

" أحدٌ من المدرسة؟"

لم يكن عليه قولُ شيء، لأن لمحة القلق اجتاحت عينيه فوراً قبل أن يقول شيئاً لذا هي فهمت كل شيء.

مرت بضعُ أسابيعٍ وهذا الفتى تايهيونغ يأتي إليها مضروباً مع جروحٍ في كلِ جسده.

لم تكن حالته كما كانت عليه اليوم، و هي قد رأته أكثر من مرةٍ وهذه المرة كانت أسوأها.

كانت ستسأله، وستستمرُ بسؤالهِ حتى إن لم يخبرها يوماً لأنها أرادت معرفة الأمرِ وإيقاف من يفعل هذا أياً من يكن.

" حسناً، ليس هناك داعٍ لنتحدث الآن." قالت وابتسمت جاعلةً إياه يحدقُ بها.

أمسكت بقنينةٍ بها ماء من على الرف وبحذرٍ ساعدته في التحويل لوضعية الجلوس، محاولةً ألا تغضب أياً من جروحه أكثر من اللازم.

عندما كان مستنداً على الوسائد، فتحت الغطاء ومدتها له فأخذ رشفةً صغيرةً وأمسك القنينة بيديه.

" سأكتبُ لك ملاحظة كي تعتذر من حضورِ صفوفِ الغد، ويمكنني تكليفُ شخصٍ ليأتي بالواجبات لك. يمكنك البقاءُ هنا للغداء لو تريد! هذه المرة سأتجاوز عن أصدقائك." غمزت له.

قهقه تايهيونغ والتفت ليديه المضمدة بينما يتنفسُ بصعوبةٍ من كثرِ الضمادات فوق أنفه.

لم يرغب بأن يراه جيمين بهذه الحالة، فهو سيدركُ ما حصلَ له.

على هذا الإدراك، لم يشعر فقط بقلبه يغرق بل وحتى كرامته أيضاً غرقت بين الظلمةِ بعيداً..

" شكراً لكِ.." تمتمَ.

ابتسمت الممرضة بعينيها اللاتي تحولتا إلى أهلةٍ صغيرة ومسحت على ذراعه بأريحية.

" أنا -"

" هل يمكنكِ إخباري بمدى سوءِ الأمر؟ " قاطعها.

بدت وكأنها تفاجأت في البداية، فلم تقل شيئاً ورمشت له فقط و آثرت الهدوء.

" حسناً كأساس.. أنفك كُسِرت." تنهدت.

" لديك ارتجاجٌ بسيط، شفاهٌ مقطوعة، عينٌ متورمة، وبقية الأشياء فقط جروحٌ وقطوع. جارحتُك بقدرِ ما استطعت ولكن من الضروري جداً أن ترى طبيباً لأجلِ أنفك."

ازدرد ريقه وأومأ.. صحيحٌ كل هذا حصل له، ولكن سماع الأمر هكذا جعله يبدو أشد إخافةً مما يظن.

كيف أمكنه السماحُ بحصولِ كلِ هذا على أي حال؟

لأنه جبان.. هذا هو الجواب..

" حسناً، شكراً لكِ." أومأ.

ابتسمت الممرضة وتحركت من مكانها عندما سمعت صوت باب غرفة التمريض يُفتح ويغلق مجدداً قبل أن تخرج من الغرفة.

تنهد تايهيونغ وأمسكَ بذلك اللحاف الأبيض بيديه مغلقاً عينه الواحدة متهرباً من الدموعِ التي شعرَ بها تغلي في عينيه.

أرادَ لو يموتُ وون يو، وأرادَ لو يموتُ بون هوا ومون هي أيضاً.

لماذا من بين مئات الطلاب في مدرسته، كان يجب عليهم اختياره هو واستهدافه هو دون غيره؟

لو كان يملكُ مسدساً، لأطلق النار على رؤوسهم جميعاً..

رفع تايهيونغ يده المضمدة ومسح عينه عندما سقطت تلك الدمعةُ الضالةُ على وجنته.

****

Like this story? Give it an Upvote!
Thank you!

Comments

You must be logged in to comment
No comments yet