همسُ نجوى

عاجزٌ عن مساعدتكَ أو إشفائك

في الوقتِ الذي وصل فيه تايهيونغ للمنزل، ضوءُ السقيفة فوق الطاولةِ القديمة كان مُشعلاً ووالده كان ينتظره - وكان قد ركض فوراً بقدميه بمجردِ أن لمح أبنه بذاك المنظر.

" تايهيونغ !"

وصل إليه ووضعَ يده حول كتفيه كي يساعده ليقوده للداخل.

" المدرسة اتصلت بي وأخبرتني بما حصل! من .. من فعل هذا؟!"

قذف تايهيونغ بحقيبته وجلس على كرسي طاولة الطعام في المطبخ بعد أن أشعل والده الأنوار وأخذ يفتشُ بين الدواليب بحثاً عن كأسٍ يصبُ فيه ماءاً لولدهِ.

نظر السيد كيم لتايهيونغ عندما لم يجد منه جواباً ولكن تايهيونغ فقط هز رأسه.

" كنا نلعبُ اليوم كرة المراوغة.. وخرج الأمر عن السيطرةِ قليلاً .. أنا بخير! الممرضة.." ابتلع ريقه ولم يجرؤ على النظر لوالده.

" تفقدتني وتأكدت من أنني بخير."

عندما وضع والده كأس الماء أمامه، ركع على ركبتيه محاولاً رؤية تعابيره ثم برفقٍ أمسك بذقنه ورفعه رغم أن الصغير كان يرفض رفع رأسه.

ولكنه استطاع رؤية كل شيء، استطاع رؤية ما في ابنه ولم يكن ليصدق أن كل هذا من كرة مراوغة.

" لماذا فقط لا تخبرُ والدك بما حصل؟ أخبرني بما حصل كي أفهم الأمر وأقوم -"

" أبي.. " قاطعه تايهيونغ.

" لا أريدُ منكَ أن تفعلَ شيئاً، كان الأمرُ فقط حادثاً ! لا أشعرُ حتى بِـ- "

" لماذا تشعرُ بحاجةٍ للكذب على أبيك ؟ لماذا تريدُ إخفاء ما يحصل؟! " حاولت عيناه البحث في " العينِ الواحدة " التي بقيت لابنه فانقبض قلبه لمنظرِ ابنه.. لمنظرهِ هذا وهو مليء بالجروح ويبدو خائفاً ومع ذلك لا يزال يخفي الكثير.

" أرجوك فقط أخبرني!" تنهد.

" يمكنك إخباري بأي شيء!"

طأطأ تايهيونغ برأسهِ وحدق بيده المضمدة على فخذه وأخذ نفساً عميقاً.

لا يمكنه إخبار والده، لا يمكنه إخباره بكلِ ما يحصل لأن الله وحده يعلمُ ماذا سيفعلُ وون يو إن عوقبوا بسببه.

كلماته السابقةُ تلك،" في المرةِ القادمة لن أتردد في التسبب ضررٍ أكبر وكسرِ قدميك" لا زالت ترن في أذنيه بشكلٍ عالٍ وواضحٍ جداً.

لم يكن ليسأل إن كان وون يو يقصدُ فعلاً ذلك أم لا، فهو يعلمُ أنه قادرٌ على فعلِ ما يريد ولن يردعه شيءٌ عما يريد.

فقط التفكيرُ بكونه يجلسُ على كرسي المعاقين لبقيةِ حياته يجعلُ أمعاءه تترنح.

رفضَ أن يقول كلمةً واحدةً.. لا يريدُ أن يفقد قدميه..

" أنا حقاً متعبٌ أبي، ولدي العديد من الواجبات. هل يمكنني الذهابُ لغرفتي أرجوك؟"

" ولكنكَ -"

" أرجوك.. أبي؟" عض تايهيونغ على شفتهِ برجاء.

تنهد السيد كيم وفرك جبهته قبل أن يومئ وينهض على قدميه بينما يساعدُ ولدهُ على النهوض.

" حسناً، سأناديك عندما يكون العشاءُ جاهزاً."

أومأ تايهيونغ وأعطى والده عناقاً قصيراً جاعلاً من الأبِ يقبلُ جبهته، قبل أن يأخذ تايهيونغ حقيبته وكأس مائه ويصعد للأعلى.

أغلقَ باب غرفتهِ خلفهُ ووضع أشياءه جانباً عندما خرجت "يوي" تلك الجروة البيضاء من بين تلال البطانيات وبحماسٍ قفزت ترحبُ بمالكها.

" مرحباً يا فتاة، هل كنتي هنا طوال الوقت؟" أخذ يمسح شعرها خلف أذنيها وقربَ وجهها منه ليقبلها جاعلاً منها تنبحُ بسعادة.

نبحت يوي وهي تلعقُ الضمادة على يديه قبل أن تقفز وتدور حولهُ كما لو أنها تبحثُ فيه عن ضررٍ آخر.

عندما عادت للأمام أخذت تصدرُ صوتاً خافتاً شاكياً جاعلةً منه يتنهدُ ويمسحُ على فروها.

" أعلم.. لا تؤلمني كثيراً بقدرِ السوء الذي تبدو عليه.."

صنعت يوي صوتاً ولكنها ابتعدت عنه وقفزت على السرير عودةً لمكانها المعتاد بين الدمى المحشوة واللحافات على السرير.

عرج تايهيونغ نحو خزانته وغير ملابسه ليرتدي شورت وقميص قبل أن يلتقط هاتفه ويستلقي بجانبِ يوي على بطنه.

" أيقظيني حينما يحينُ موعد العشاء، اتفقنا؟"

أدارت يوي رأسها بهدوءٍ فقط واستلقت بجانبه فتنهد تايهيونغ هازاً رأسه قبل أن يحدق في المروحةِ ويغيبَ عن الوعي معَ دورانها.

---

حاولَ جيمين ألا يبدو مندهشاً كثيراً عندما رأى تايهيونغ في منزله بعد ثلاثِ ساعاتٍ وقد قاده والد تايهيونغ للمطبخ ليراه جالساً على طاولةِ الطعام بذاك المظهر.

كان العشاءُ موضوعاً على الطاولةِ لثلاثتهم بعد أن عانقه السيد كيم كابنه مبعثراً شعره.

لم يكن يتوقع رؤية ما رأى عندما جلس بجانبِ تايهيونغ..

عينه اليسرى كانت متورمةً مغلقة وشفته كنت مشقوقة ومجروحة من الجانب. أنفه كانت ملفوفةً كثيراً كمثلِ يداه وقد كان بكاملة مكسواً بالجروح والندوب التي بدت وكأنها لن تختفي إلا بعد أسابيع.

بدا تايهيونغ مروعاً في الواقع، ولكن جيمين لم يكن لديه حقٌ في التكلمِ لذا بدلاً عن ذلك حاول تغيير تعابير وجهه ولكن تايهيونغ كان قد لاحظ ملامح وجهه مسبقاً فدفعه بخفة.

" توقف عن التحديق!" تأفف تايهيونغ.

" آسف.." تمتم جيمين وأعاد نظره لطبقهِ الذي وضعه له السيد كيم.

كان الأمر مربكاً في بادئ الأمر، كما كان دائماً كلما تجمع ثلاثتهم على العشاء.. فهناك قاعدةٌ غير منصوصةٍ أن جيمين كلما أتى يجبُ عليه أن يأكل صحنه كاملاً وإلا لن يتركه السيد كيم بتاتاً.

وهكذا.. أكمل جيمين تناول طعامه مع السيد كيم بإغلاقِ أعينهما عن تايهيونغ وما هوَ فيه..

---

" يجبُ عليك فقط الذهاب للمستشفى، يبدو الوضعُ سيئاً حقاً."

صُفِعَ الباب خلف تايهيونغ وجيمين قبل أن يلقي تايهيونغ بنفسه فوق سريره فاتحاً الحاسب.

أدارَ تايهيونغ عينه الواحدة نحو جيمين الذي استلقى بجانبه.

سيكونُ نفاقاً إن أخبرَ جيمين أنه لا يحتاج للذهاب لطبيب، والسبب واضحٌ جداً.. لذا فقط صفع جبهة جيمين بخفةٍ وأمره بأن يخرس.

" تاكاكي غبيٌ جداً في بعضِ الأحيان." قال جيمين عندما بدأت الجزئية الثالثة من الفيلم بالعرض.

" لماذا؟ أظنُ أن زيارته أكاري كالواجب."

" ناه!" هز جيمين رأسه ومال ليستريح رأسه على كفيّ يديه.

" أكاري ستتزوجُ شخصاً آخر، كان يجبُ على تاكاكي الاستسلامُ منذُ وقتٍ طويل."

" إذاً لن تقوم بزيارتي إن كنتَ راحلاً أو شيئاً كهذا؟"

" هذا مختلف."

" كلا ليس كذلك!!" عبس تايهيونغ وأمسك بدميته المحشوة ورماها على جيمين.

وفقط هكذا.. المشاكلُ التي تطعنُهما اختبأت مجدداً خلف حجاب..

---

أشعل السيد كيم النور بجانبِ سريره عندما جلس عليها فاركاً جبهته بتنهدٍ ثقيلٍ يغادرهُ.

كان يستطيع سماع صوت أحاديث الفتيةِ بالأسفل فابتسم هازاً رأسه قبل أن يخلع أحذية المنزل وينغمس تحت بطانيته.

كان السريرُ كبيراً بعض الشيء لشخصٍ واحدٍ، جاعلاً منه يحدقُ بشرودٍ في البقعةِ الفارغةِ بجانبه، التي تكونُ غالباً لتايهيونغ عندما يصعبُ عليه النومُ والتي كانت قبل بضعِ سنينٍ.. لزوجته.

لا زال السريرُ كما هو.. البطانيةُ مفروشةٌ عليه بعنايةٍ و به وسادتان عند مقدمته.

وهجُ المصباح الخافت أخذ يعكس ظلهُ للجانبِ الآخرِ الفارغِ من السرير.

ببطءٍ ووهنٍ امتدت يد السيد كيم ليمسح بأنامله على تلك البقعةِ الفارغة قليلاً ثم يدس يده تحت وسادته مخرجاً من أسفلها صورةً صغيرة.

كانت من بضعِ سنينٍ سابقة، قديمةً نسبةً لذلك الاحمرار في حوافها، ولكنها كانت لا تزال واضحةً..

وبارتجافٍ امتدت إبهامه على وجهِ زوجتهِ الراحلة..

شعرها الأسودُ الطويل كان مرفوعاً بكعكةٍ فوضوية وهي تمسكُ بذي السبعِ السنين تايهيونغ الذي كان على وشكِ السقوط منها وهو يضحكُ بقوة.

بدت متعبةً.. ولكن تلك العينان.. تلك العينان البنيتان كانتا مليئتان بلا شيءٍ عدا الحياة والنور.

بدت يافعةً كثيراً، ابتسامتها تنفي عمرها الذي كان في الواقع أكبر من عمرِ زوجها.

تذكرَ ابتسامتها كما لو أنه فقط رآها بالأمس، وملمسُ يديها على يديه، ورائحتها في أولِ الصباح، وكيف كانت تهتمُ كثيراً بعائلتها الصغيرة.

أخذَ شيءٌ ما يلسعهُ في عينيه فشدَ على فكهِ محاولاً أن يرمش متخلصاً من تلك الدموع التي يشعرُ بها تهدده بالقدوم.

المقارنةُ الكاملةُ بين هذه الصورةِ الجامدة وبين تلك المرأة التي رآها ببطءٍ تُسحَبُ بعيداً عنه على سريرٍ نقالٍ في المستشفى قبل أربع سنوات كانت تلازمه كل يوم..

لأن تلك المرأة لم تكن تشبهُ زوجته التي عرفها، لم تكن بالصورةِ التي حفظها دائماً وأنكر دائماً أن مرضاً بالقلبِ قد يغيرها.

" أحتاجُ مساعدة.." قال بخفوتٍ كما لو أن أحداً آخر سيسمعه.

" أ.. أنا.. لا أعلم كيف أتصرفُ حيال تايهيونغ و.." اختنق بأنفاسه وأغلق عينيه بدونِ حولٍ وقد فاضت مشاعره.

" لا أريدُ رؤيته متأذياً بعد الآن، لا أريدُ رؤية هذه الجروحِ عليه ولا أريدُ منه إخفاء الأمرِ عني! لا يمكنني الوقوفُ ساكناً وأنا أراه مكسوراً!" قال للصورةِ وهز رأسه باستنكارٍ وقد بدأت الدموع تسيلُ على وجنتيه.

" أرجوكِ.. أتوسلُ إليكِ ساعديني.. أخبريني كيف أتصرف يون آي أرجوكِ.. ولدنا يكادُ يموتُ بجروحهِ وهو لا -"

أخرجَ المسكينُ شهقةَ بكاءٍ ولفَ برأسهِ للوسادةِ ليبكي قلبه وصورة تايهيونغ عن دخولهِ للمنزل اليوم لا تزال محفورةً في رأسه.

تلك النظرةُ السوداء على عينيه، وكيف كان يعرجُ في سيره، وكيف بدا وجهه مروعاً جعلت دموعاً أخرى تفارقه وقد ضمَ هيون دو الصورة لصدرهِ منتحباً.

" فقط أرجوكِ.. أخبريني ماذا أفعل، أخبريني كيف أحمي ابننا ل.. ل..لأنني لا أستطيع.. لا أستطيع أن أخسره أيضاً." لهثَ وبكى بقوةٍ أكبر على ذلك القماش الجامد.

كانت دموعه تكسو وسادته وكان يعلمُ أن عيناه ستتورمان وستحمران ولكن شيئاً لم يكن يهمهُ الآن.

لسببٍ ما شعرَ بأنه فَشِل في تحقيقِ الشيءِ الوحيد الذي تمنته يون آي، بأن يهتم بولدهما.. لذا شعر بغصةٍ تتصاعد لحنجرته.

" أريدُ مساعدته ولكن لا يمكنني فعل ذلك إن لم يتكلم معي ويقل لي ما الذي يحدث."

أعمت الدموعُ بصيرته وهو يمسحها بكفهِ قبل أن يعيد الصورة أمام ناظريه ويحدق بها.

" أسفٌ لأنني فشلتُ كأب.. لكن.. الأمرُ صعبٌ بدونكِ.."

قبل سنوات، كانت لياليهم الطويلة المتأخرة تحوي الأحاديث التي تكونُ باستلقائهما بجانبِ بعضيهما تحت البطانيةِ وهما يحكيان لبضعهما عن ما يحصلُ في أيامهما، مخاوفهما وما يقلقهما.

قبل سنوات.. يداهما كانتا تجدان بعضها من تحتِ البطانيات، وبالنظرِ في أعين بعضيهما كان يؤمنانِ بأنهما سيفعلان كلَ شيءٍ معاً.

الآن هيون دو لا يمكنه سوى النظرُ إلى هذه الصورة الجامدة، هذه الصورةُ التي ستبقى دائماً للأبد كما هيَ.. وقد كان التحدث معها في الليالي الحالكة عبر هذه الصورة.. ما أبقاه عاقلاً بدونها.

" لا أريدُ رؤية تايهيونغ يدخلُ المنزل بشفاهٍ مجروحةٍ مجدداً.. ولا حتى بعينٍ متورمةٍ مغلقة.. لا أريد.."

***

Like this story? Give it an Upvote!
Thank you!

Comments

You must be logged in to comment
No comments yet