هِي كُل شَيء

مَثْوَاه | His Home

 

الكِتَابة فنٌّ إستسهلَها البعض، منهُم من حقَرَها وهناك مَن أنكرَها عن باقي الفنون، فإن سألت أحدَهُم (كيف تُصبح كَاتبًا؟)

فيُجيبكَ أن عليك رَبطٍ جملٍ جمِيلة بفِعل وفاعل ومفعُول بِه، قم بتكْوين جملٍ عدِيدة كالأخيرَة، لتتشكل لك فقرَات طويلة مَع شخصيات تتحدَث وتقوم بحركَات مبتذلة، وإفصلها عن بعضها بنقَاط وفواصل.

ومبَارك لَك! أنت كَاتب مَاهر!

وهذا ليسَ صحيحًا البتة، أن تكُون كاتبًا يعنِي أن عليْكَ الكتَابة من قلبِك، ومن عقلِك. فكتَابك سيباتُ باهتًا بدُون أن تُفرغ به جلَّ ما فِي قلبِك بصَفحَة تتلُو بهَا مشَاعركَ وأحسَاسيسكَ بَين سطُورِها.

وستزيدها بُهتًا إن ركزْت فقط عَلى الحبِّ لِمَا كتبته، إذ عليك أن تُدرِك مَا أنتَ بكاتِب، حيَاكة الأحدَاث ببعضِها بعدَ أن تشغَل فِكرَك لأسابِيع طَويلة تبحثُ بأعماق وعيك عَن فكرَة منَاسبَة -حتى أنَّك ستلجأ للَا وعيكَ ببعض الأحيان- ، ثُم تأتي للتخطِيط لحبكَة قصَّتك، والتَّخطيط ليس بالشَّيء الهَّين يا صدِيقي، فالحبْكَة لوحدِها تعادلُ روَاية بأكملِها، وتقريبًا أغلبُ الكُّتاب قد عانوا منهَا، فمَا أدرَاك التخطِيط لَها.

حَتى كيم تاَيهيونق، الرِوَائي المستَّقل، حالِيًّا يقُوم بكتَابة قِصة قصِيرة، وقرَّر أن يتخِدَ موضُوعًا قصِيرًا، جميلًا، عميقًا لها.

شَيء عنْ (المَنزِل) مثَلًا. مفهُوم لَم يقُم أحدٌ بذكرِه قبْلًا، حتَى إن قَام أحدٌ بمحَاولة كتَابة شيءٍ عنه فسَتكُون أول جُمله کـ"المنزِل مكَان القَلب والقلبُ بحدِّ ذَاته."

متجَاهلِين حقيقَة أنَّ القلب يَنفَر بعيدًا عن المَنزل أحيَانًا.

فـ (المنْزل) هو المَكان -أو الشَّخص- الذي تهرع إلَيه هَاربًا من قلبكَ، تخَتَبأ هنَاكَ من عَقلكَ، تُطبق جفنَيك وتَتنفس بعمق، وتدع هيَجانَ هَواجسَك تحلِّق بَعيدًا عنكَ بنفس واحدٍ فقَط بداخِله.

وتستيقظ بمكَان آخر.
غَير مَنزِلِك.
مثلَه هُو.

زفر وحكَّ عينَيه بظَهر كفِّه، يحدِّق بِـجدارِ غرفتِه الذي عُلِّقَ عليه سَاعة إلكترونية، تشِير لـ السَّاعة الثَانية والثمانية وأربعُون دقيقَة، فجرًا.

بجَانبها، ألصِقت عدًّة أوراق صغيرَة دوِّنَت عليها أفكارٌ إتخدهَا مرجعًا له بأيِّ وقتٍ أراده، مع عدَّة إطارَات صور ولوحَات فنيَّة مختلفة لإلهامِه، والتفكِير بعمقٍ أثنَاء تأملِها.

لكن هَذِه المرَّة، هوَ لا يرِيد ذلك، لا يرِيد أن يُفكِّر، وخاصة بالذي بعقله حاليًّا.

لَا يوَّد التفكِير بـ منزِله.

ذَات يَومٍ، تايهيُونق حَصَل على منزِل، منزله الخَاص، مكانٌ يستطِيع الرجُوع إلَيه بدُون أن يتردَّد ولو لثَانية وَاحدَة.

تبسَّم عندمَا لمعَت إحدَى ذكريَاته بعقله، أول مرَّة عندمَا جهَّز أورَاقه وحمَل قلمَه ليَخط إسْمًا-- بَارك يومِي، عندَها أصبح يحكِي ويروِي جلَّ ما طمَسَه بوجدَانه لَهَا وعنهَا.

فتَاة بكُّل بسمَة تظهَر عَلى محيَاها، تختفِي مدمعتَيها، ولَم ينسَى ذِكر نعومَة صوتهَا الملائكِيٌّ، والذي قد يجعَل حتى الملَائكة تغُّط بسُبات عِيمق بِتهوِيدة وَاحدة منْها.

هُو لَا يَعلم من أين أتَت، وليسَ لديه أدنَى فكرَة كيف إستطاع عقله الوصول إلَيهَا، كيْف كَّفه تحرَّكَت على تلك الورقَة بسرعَة مَع قلمِه يرَوِي ألف حكَاية بين سطُورٍ جميلَة حوَّت حبًا أحيَاه بكلمَاته لها، لأنَّ يومِي كَانت منزلُه.

أهدَر تايهيُونق سَاعَاتٍ طويلَة لبنَاء شخصيةٍ واحدَة مثلَها، وبنَاء عَالم كَامل يحطِيها بسَمَاء أخدت لَون أموَاجِ المحِيط وتموجاتهَا والتِي ببساطَةِ مثَالِيتهَا.

وقدْ إتخدَّ تَايهيُونق "هِي كَانت" إحدَى الأفعال التِّي إتصلَّت بها كثيرًا.
وهُو لن ولم يتعَب أبدًا بوصف أدَّق تفاصيلِها، تفاصيل أفعالها وعالَمها، وصفٍ تحكَّمت بِه أنَاملِه فقَط، أنامله الذهبِيَة.

حَام قلمُه بالهوَاء على مقربَة من الصفحَة التِّي أمامه، يعِيد التأكد مما بينَ يديه ومقارنتَها مع مسودَّته، التِي وجدهَا بصعُوبة بينَ كومَة الأورَاق الضخمَة التِّي بجانبِه، ليقُوم بعدَها بشبكِ الصفحات تلْك مع بعضِها.

فلاطَالما آمن تايهيُونق بأنه قد يحتاج إلى مسودَاته يومًا ما، وخَاصَّة لمَّا يفِّر منه الإلهَام هَاربًا عن عقلِه، فيستعمِل کِتَاباتِه السَابقَة كتجدِيدٍ لطاقَة رُوحِ الكَاتب التِّي بدَاخله، أوْ مُساعِدٍ له عندَ الشدَائِد، أو لتقدِيمهَا لدَار النَّشر بعدَ قلِيل لتأكُّدِ مِن صلَاحِية فكرَتِه.

بغتَة، فكرَّ مجدَدا بها، لكنَّه تمالك نفسه وذكرَّها أنَّ لا حاجَة للتفكير بذلكَ الآن، حتى أنها ليست بتلكَ الأهمية للتفكير بِها، أو وُجِب عليه التفكير بها.

لكنَّه أدرَك شيئا آخر بقصَته هذِه، شخصيَته الأخرى.
كيم نامجُون.

شخصيَة كيم نامجون نقِيض شخصيَة بَارك يومِي، أو بالأحرَى يمتلِك نامجُون كل مَا لَا تمتلكُه هِي.

وبالقصَة التِّي قام بكتابتِها تايهيُونق ستلحَظ أنَّ نامجون كالدخِيل بهَا وبحياة يومِي، دخِيلٌ مكدَّس بأفعالٍ وشخصِية غريبَة.

فلَو إعتبرنَا أن يومِي جملَة بليغَة تعبِّر عن الجمَال والطيبَة بشخصيتها، فنامجون سيكون سؤَالًا خُتِم بعلَامة ملتوية مستفهِمة، كحيَاته، حيَاة إلتَوت كجُمْلَة ليسَت لها أي إجابَة، فتدخُل عَليه يُومِي وتجعلهَا تنتهي بأخرَى مستقيمَة، حائرَةً متعجبَة.

فمَع يُومِي، أيَّام نامجُون لَم تكُن يومًا مقيَّدَة بتلكَ الشرُوطٍ التِّي وَضعَها لنفسِه سَابقًا، أو مجرَّد أيامٍ مبنيَة للمجهُول.

فبفضلِها صارت أيَّامه تتدفَق بسهُولة. كلُّ أيامه باتت تتدَّفق وتمتَد للسرمِد البعِيد، البَاحث عن نهَاية لمَا يكنَّه نامجون لفتاته، وإن سألته، هُو لا يرِيد لأي شيء أن ينتهي، خاصَّة حبه ليومِي.

فحبُّه لهَا سرمِدي، فرَجَى السِّرمَد أن يبقَى سرمِدًا سرمِديًّا.

ألقَى تايهيُونق نظَرها أسفَلًا لكلِماته عَلى الصَّفحة التِّي أمامَه؛ و لَاحظَ مُرُور دهرٍ عَلَى دخُول شخصِية أخرَى كيُومي.

غَير هَذا الكِيم نَامجون والذِي يعتَبر دخُولُه لمجرَى الأحدَاث مفَاجِئًا وغَير متوَّقع، عالأقل هو لَم شخصًا سيئًا، أو شخصيَّة شريرة تفسِد حيَاة البطلَة.

هو فقَط غير متوقَّع. وخاصة مشَاعره. تايهيُونق لم يضعْ ببالِه أبدًا فكرَة أنَّ يومي لَم تغْدُو خَاصته بَعد الآن. لَم تغدُو منزلَه بَعد الآن.

منزِله مثوَاه و مأوَاه.

- ربَّما هذَا جيِّد. -
فكَّر تايهيُونق بينمَا يَدع مقدِمة قَلمَه تضغط عَلى الصفحة التِّي أمَامه، يدعُ الكلمَات تتدفَق من عقلِه وتنسكِب عَلى شكلِ جملٍ متتاليَة ومتتابعَة عَلى ورقتِه، هو حتى لم ينتبه لِما يكتبه، وهو بالطبع يحتاج للرجُوع وقراءة الفقرة من جدِيد ورؤيَة متى آخر مرة قام بكتابة إسم صحِيح.
- ما خطبِي هذه الأيَّام مع كل تِلك الضَمَائر المبتَذلة؟ -

  - نامجُون يحِّب كَجمْلةٍ حجَاجيَة تطالب بحُجَّة لعشقهَا. نامجُون يحب بالحَاضِر، ويحلُم بالمستَقبَل، ويومِي كل أفعَالها أخدَت المضارِع إعرابًا لها. فنامجُون يحِّب يومِي، هُو يحبِّها-- -
 
هوَى قَلمه مِن يدِه، ليسقط عَلى الطَاولة، خلْل أناَمله بين خصُلاته، تنفَّس تايهيونق الصعدَاء ليشعُر وكأن الهَواء شَظَايَا زجَاجٍ علقَت بحنجرِتُه تجرَحه، وتخنقِه. تنًّهد مجددًا، لَا تزَال فَقط الخَاتمَة. وتنتهِي قصَّته.

أحَّس بوخٍزٍ بأنَامِله، ليلتَقط القلَم من جدِيد ويبدَأ بكتَابَة أول سطرٍ لنهَاية كتَابه. بحلَق بِه مُجدَدًا ليشعُر بركَاكَته وهشَاشته، عقَد حاجبَيه مستَغربًا، فعَادَة ما تكُون يدُه ثَابثَة عند الكتَابة.

أثْنَاء كتَابته للجملَة المواليَة، أسقطَ القلَم مجددًا بكفيْن متعرقتن مرتعشَتين، وإنتفَض من مضجعِه مهَروِلًا لهَاتفِه، خفَّاقُه طَفِق ينْبِض بهستِيرية أثنَاء كتَابتِه لجمُلَة في شَريط البَحث
" هَل يُمكن الوقُوع بِحبُّ شخصٍ قمتَ بصُنعِه."

وخلَال ثَلالث ثَوانٍ قَصِيرة وجدَ نفسَه قد إنتقَل لصفْحَة أخرَى، تُظهِر عدَّة موَاقعِ وأعلَاهَا مجرَّد منتديَات حبٍ و صفحَات قدِيمَة أخرَى.

لكن جدَبتهُ إحدَى المقَالَات واللّٰه أعلَم من ومتَى قَاموا بنشْرِها، بعنْوان -أظَّن أنني وَاقع بحب شخصية قمت بصنعها-

المقَالة لم تكُّن طوِيلة، ومعظَم التعليقَات أسفلهَا عبَارة عن سخريَات عن صاحبِها أو مشوشُون من غرابَة قصة صَاحب المقَال.

لكنْ بَين مجمُوعة التَّعليقات السَّاخرة تلك، رأى تعلِيقًا يبدُو على الأغلَب من صَاحب المنتدَى، آخِر نشَاطٍ بحسَابه كان منذُ خمسِ سنوات. ليبدَأ بقراءة ردِّه عَلى هذا الشَّخص المحتار..

"إن صَنعتَها بحُبٍّ، فستحِبها.. الأمر أشْبَه بالمشَاعر التِّي تكنُّها الأم لإبنهَا.."

وهنَا أدرَك تايهيُونق كُل شَيء، وإستنتَج أن كل المشَاعِر قوِّية أيًّا كَانت، كرهًا بغضًا أو ولَهًا، تنتج عن الحب، أما غير ذلكَ فستكون مجرَّد رغبَات يعدُو خلفَها الإنسَان، وذلك بسبب أنه يُحِب أن يُحَب وَ يُستَحب.

رفَع تايهيونق نَظره عن الشَّاشة المقَابلة له، إلى الجدَار تحديدًا، لساعته الإلكترونية، ليلحظَ أنَّها الظهِيرة، ولا تزَال أمامه نهَاية مضبَّبة آخر صفَحاته؛ وهي أنَّ يومي ونَامجون قرَرا شرَاء منزِل علِم اللّٰه متَى سيقتنيانه. لذَا فكَّر الكاتب أنَّ الوقتَ لا يُهِّم وسيجعل يومِي تتبسَّم لنامجُون عندَما يَقْبَل إقترَاحها.
نهايَة مفتوحَة بسيطَة لكل قارئ .

مرَّ على مَا يقَارب 14 حيًّا عندما قرر الذهاب لدَار النشّْر، والذي إستغرَق وصُولُه فَتح  الدار وشُروع النَّاس بالعمَل هناك.

إلتقى تايهيُونق بِـ يونغِي الأروقة ليسلِّم عليه، ويلحظُه ممسكًا بمجمُوعة أورَاق ضخمَة بكلتَا يدًيه.

"أبتَّ مستيقِظًا طوَال اللَّيل؟"

"أجَل،" أردَف تايهيُونق، يهُّز منكَبيه بإهمال ريثمَا يقُوم يونغِي بقلبِ الصفحَات وضبطِها قبل أن يشبْكها بمشبَك ورَقٍ أكبَر من خاصة تايهيُونق السَّابق.

"لقد ملِّلتُ من إخبارك أن تهتم بنفسِك مرَارًا وتكرَارًا-- مَا خطْب الكُّتَاب مع النَّوم؟"

"نحنُ نكتُب أفضَل عندمَا تتعَب عقُولنا، فالعبقَرية كلُّها تأتِي لأمخاخنَا بذلك الوَقْت وتدعنا نكملَ أعمالنَا." نطَق يقُوم بالتثَاؤب بعمقٍ لدرجَة أحسَّ بالإختنَاق. ليرفع يونغِي حاجبَيه فجأَة بينمَا يحدِّق بالصَّفحة التِّي أمامَه.

"نَامجُون؟ شخصِيَّة جدِيدة..."

أومَأ الكَاتِب، "أجل، هوَ كذَلِك"

"وَ... إنتظِر، هل همَا متزوجَان؟"

قَلب الآخر عينيه بضَجَرٍ، ليُجيبَه "كلَا، هل يهم ذلكَ حتَى؟"

"أجَل، فمَا حَاليًّا يقومَان بشرَاء بيتٍ لكليهمَا."

"إذًا؟ الأشخَاص يشترُون منازِل بدُون أن يتزوجُوا حتَى."
زَفرَ يونغِي بقلَة حيلَة، يهزُ رأسهُ ويتمتمُ ببعض الطلَاسِم عن أطفَال هذا الجِيل وكَيفَ يجهلُون أسَاسِيات الحيَاة بطرِيقَة جدُّ مستفزَّة، أنثَى ورجلٌ بمنزل واحد! ما معنى ذلك؟

ليقُوم تايهيونق بالتثَاؤب مجددًا، ويردِف.

"أعتقِد أنَّ علي الذهَاب."

أومأ يُونغِي، يُرجعِ للآخر مَلَّفه الضخٍم، لتتحرك مقلتَا الآخر للأعلى، تحديدًا أسفَل العنوان موقِعًا إسمه هنَاك.
كيم تايهيونق.

"أحضِر لِي قهوَة بطريقِ عودتِكَ" نَطقَ يونغِي ملوِحًا للآخر، ممسكًا بكتاباته.

"لا...أقْصِد بالذهَاب، أعنِي الذهَاب."
شعرَ يونغِي ببعض الغرَابة من كلَام تايهيُونق، فعَادة ما إن يقدِّم الآخر إحدَى فصُول أعماله، أو حتَّى أعماله بحد ذَاتِها، مبَاشرة يتَّوجه للمقهَى الذِي بالحَي المقَابل ويشتري خمسَ أكوابٍ له، وكوبًا للآخر الذي سأله.

"إلى أيْن؟" رفَع نظَره إليهِ، نَاطقًا مرتبكًا.

ليحدِق بِه بإبتسامة أثقلها التعبُ، وأهلكَها. ليتمتمَ.

"طبْعاً، إلَى المنزِل."

 

Like this story? Give it an Upvote!
Thank you!

Comments

You must be logged in to comment
No comments yet